Saturday, February 18, 2012

جدليات النخبة في مصر : مباركيون أكثر من مبارك




مقدمة :

لقد أصبح اسم مبارك لصيقا بكل مذمة ممكنة سواء كانت متعلقة  أو غير متعلقة به ، ولكن كثيرين منا يتفقون أن ما أفرزه نظام مبارك من خرائب في كل المساحات هو شئ لا يمكن النقاش فيه ولا محاولة ستره او التغاضي عنه ، فإن هذا النظام بشكل عام ولا أقصد مبارك وحسب ، بل اقصد النظام برأسه وبتشعباته لم يسببا فقط فسادا ماليا ونهبا للمال العام واقصاءا للكفاءات وحسب ، بل تسببت 30 سنة في تجريف العقلية المصرية تجريفا بشعا ، تنبأ به البعض قبل أن يظهر بشكله الفاضح اليوم وبعد رحيل رئيس النظام ذاته . والاشكالية اننا لو هدمنا النظام وسويناه بالارض فلن يفرز هذا نظاما جديدا علي الاطلاق طالما أن العقليات التي تهدم اصبحت مباركية اكثر من مبارك ومصابة بنفس الامراض التي ينتقدونها وينظرون للقضاء عليها ، فليس للعليل ان يشفي غيره وهو اشد علة من غيره بل وربما هو جزء من المشكلة التي يحاول حلها .



من الميدان الي الفضائيات : اول ظهورات الاعراض المباركية علي النخبة

انا اعتبر ان بدايات ظهور مثل هذه الاعراض للجماهير كانت في قلب ميدان التحرير وفي الايام العشرة الاخيرة للتنحي ، ولم يكن ليراها الكثيرون لولا ظهورها علي الفضائيات بشكل صارخ حتي ان الكثيرين لاحظوها ، فكانت اللغة هي اول سمات الاعراض المباركية ، فاللغة قمعية ومستعلية فيها اقصاء للمخالفين وفيها ركوب علي الثورة بتنصيب البعض انفسهم متحدثين رسميين ، ولقد كانت مشكلة الاعلام هو البحث عن ناطق رسمي للثورة ، فتصدر للمشهد نشطاء ما قبل 25 يناير والذي تصادف ان اكون منهم رغم انتقادي لهم ومعهم لفيف من الساسة ورجالات الاحزاب وغيرهم من المتحدثين في السياسة ومعهم لفيف من الصحافيين غير المهنيين كعادة الصحفيين بشكل عام في مصر



من الاستفتاء وانت طالع

اريد ان اقف عن الاستفتاء قليلا لانه اظهر بوضوح عدة صفات للنخبة المستعلية الممتلئة بمبارك حتي وهي تلعنه ، وكان منها الميل للجدليات الثنائية : " انت معانا واللا مع الناس التانيين "  ، فبعد ان بدات الجدلية الاولي " انت مع الثورة واللا ضدها " والثانية " انت ثوار واللا فلول " بالتفشي في جنبات اللقاءات الفضائية والمقالات الصحافية ...ظهرت تلك الجدلية في الاستفتاء " نعم أو لا " ، فبينما نظر البعض في اليمين الديني ل" نعم " لكونها اختيارا ربانيا يدخل المرء في عداد الاتقياء نظر البعض في اليسار ل " لا " باعتبارها رمزا للثورة والوفاء لدم الشهداء . وتجاهل الطرفان طبيعة المصريين والتي قالت " نعم " في الاغلب للاستقرار ، فهي لم تقل نعم للدين ولم تقل لا لانها تريد الثورة مستمرة ، ففي الحقيقة اغلب من قال نعم كانوا يريدون الاستقرار السريع ، واغلب من قال لا كانوا ايضا يريدون الاستقرار السريع لان معظمهم من المسيحيين العاديين الذين لم يشاركوا في الثورة خوفا من قدوم نظام يقمعهم في زمن كان يخوفهم بالاسلاميين ، فالقراءة الادق لنتائج الاستفتاء ان اكثر من 90% من الذين قالوا نعم او لا كانوا انضج من النخبة التي قالت نعم للدين او لا بمعني ان الثورة مستمرة

ثم خرجت النتائج وكانت كيفما كانت ...وظهرت جدلية " الدستور اولا والانتخابات اولا " وهي جدلية مباركية من الطراز الأول تحمل خصال الثنائيات التي تشير الي فريق الف وفريق باء وكلاهما في حرب ويقوم كل منهما بحشد فريقه في مليونيات استعراضية لم يروها حينها انها تعطيل للمرحلة الانتقالية فقد كانت نخبة مبارك تري ان هذا حق مشروع وان جر الامة لجدليات حسمت في الصناديق هو شئ طبيعي ، وعلي كل حال ...سقطت هذه الجدلية مع الانتخابات التي تمت ، ولكن الروح التي افرزتها من انقسام كانت روحا مدمرة وعطلت مسيرة الاستقرار بشكل لا خلاف عليه ، حتي ان هذه الجدلية لم نكن نسمعها الا في الصحف وعلي الفضائيات بينما هي ديناصور منقرض في الشارع المصري ولا علاقة لها بما يحدث مع الناس يوما بيوم



عسكر ومدني

هذه جدلية بيزنطية اصبحت علي طراز ودنك منين يا جحا ، عتهية وليست لها علاقة باي شئ سوي الخزعبلات النفسية في قلوب من ابتكر هذا الاختراع الغريب الذي تم حسمه في العالم ومن سنين عديدة .

ابتدأ هذا الجدل مع حشد فريق ضد المجلس العسكري لاختلافه معه في اشياء ولانتقاده لبعض قراراته – وهذا حقهم – غير ان الخلاف اخذ شكلا مباركيا جديدا وهو " انت معانا واللا مع الناس التانيين " ...ولو نزلت الي الشارع وسالت مواطنا بسيطا انضج من نخبة مبارك بكثير سيقول لك : ربنا يولي من يصلح ، وهذا هو مربط الفرس يا سادة يا نخبة مبارك ازاح الله عنا وعنكم الامراض النفسية والعقلية

من يصلح هو الكفؤ ، وحسب ...وهذا ميزان العدالة في العالم ..وقولهم حكم العسكر اصبح اشارة الي ان مصر تحكم باحكام استثنائية والدبابات تسير علي الجثث والجنرالات في حالة هياج وبيامروا الجنود باقتحام البيوت والقبض علي المعارضين ، وفي هذه الفترة الانتقالية تجد ان اكثر من يتم انتقاده هم العسكريون ، وانتقادهم مباح في الشارع وعلي الفضائيات وفي الجرائد ..لو كان هذا حكما عسكريا مثل كوريا شمالية ، لاختفي هؤلاء اصلا من الحياة . اذن هذه جدلية وهمية ومريضة ومصطنعة وتربعت علي حوارات خلفية قديمة ولكنها مضحكة جدا لان اي طفل يملك خمس سنوات من العمر سيقول لك ان هناك فرق بين حكم عسكري وبين رئيس او مسئول يمتلك خلفية عسكرية ...فالثابت لدينا ان الكل يتفق علي حكم مدني ، وهذا لا خلاف عليه ، اضف الي ان من افسد الحياة السياسية والاقتصادية في العشر سنوات الاخيرة كانوا مدنيين : من جمال مبارك واحمد عز ووزراء رجال الاعمال واصحاب رؤوس الاموال

شارل ديجول ، جون ميكين ، ويسلي كلارك وايزنهاور كلهم قادة عسكريو الخلفية حكموا بلادهم فتقدمت بهم او ترشحوا للرئاسة في قبول شعبي لهذه الخلفية ...لا يهم كثيرا الخلفية طالما ان النظام مدني ، وهذا هو المهم وحسب ....بل اعتقد ان اي مرشح يجمع بين خلفيتين عسكرية ومدنية يصبح الاقدر في قيادة مصر في هذا الوقت بالتحديد لان خلفيته اكثر عمقا ومتنوعة ..وفي عالم البيزنيس ..صاحب خبرتين ...يكسب ، اما صاحب بالين ( اي فمه ثورجي وعقله مباركي ) فهو ..كذاب



النظام السابق : جدلية من لا جدلية له

وتحت هذا البند اجد نوعين من الناس يتشدقون بهذه الجدلية :

الثائر الفل والفل الثائر

الفل الثائر هو الشخص الذي كان منتفعا من النظام القديم فقد كان اما صاحب مصالح او رجل اعمل او له تربيطات سياسية او امن دولة او فاسدين في الحزب الوطني او صحافيين واعلاميين ترزقوا في عهد مبارك من معارضته علنا ووطء مجالسه سرا  وما أكثر هؤلاء ، فهم أسماء معروفة ،ولما حدثت الثورة كان لزاما عليهم ان يخلعوا رداء النظام ويرتدوا وشاح الثورة فمنهم من كان مرشحه المفضل هو جمال مبارك ومنهم من كانت تشرف شخصيا على حملة مبارك الانتخابية ومنهم من كان يتحدث عن الفقراء نهارا ويتقاضي عدة ملايين في نهاية كل سنة ، ومنهم من انتفع من النظام السابق بالسكوت عنه والتجاوز والتيسير اذا كان من النوع الذي " يلابط " ليلا علي الفضائية عشان يعطينا لديكور الديموقراطية حقه و" يطاطي " نهارا ويأخذ اوامره من أمن الدولة  ومنهم من بكي علي رحيل مبارك ومنهم من قال مبارك رجل وطني واخر قال مبارك رجل حكيم وهكذا



الثائر الفل وهو في الحقيقة أنواع ولكن كل الانواع تتوحد تحت بند كراهية النظام وظلمه ولكن منهج التفكير لهؤلاء لا يخلو من اركان واعمدة لا تكرس الا الخطاب الاقصائي والواحد والضيق والمخون والاحادي والاستعلائي المتعجرف الآخذ الناس بالشبهات ، الواصم المنمط المحقر للاخر المختلف سياسيا ، صاحب الحلول القشرية ، المخدوع بالمظاهر ، المتشدق بالشعارات والكلاشيهات المتماهي في الحقيقة المعصومة من السوء وكأن اصحاب هذا المنهج انبياء لا ياتيهم الباطل من بين ايديهم ، اصحاب كتالوجات اصلاح يسمونها ثورية ، لا ينبغي لك ان تخالف بندا من بنودها والا كفرت بالثورة او ارتددت عن الطهر الثوري وتلوثت بالنظام القديم ، وهؤلاء يرتكبون اخطاءا جسيمة لان منهج التفكير لا يختلف عن ذات المنهج الذي سبب نفس الكوارث التي انتقدناها من قبل .



هذان الصنفان من القلة القليلة التي قام النوع الاول بتوفير المنابر فيها للنوع الثاني فهم يستعملون بعضهم البعض لان مصالحهم واحدة ، فالاول مصلحته التحور من اجل الاستمرار والثاني مصلحته الاستمرار علي رقاب الجميع لان الجميع يدينون له بحريتهم ولولا الثائر الفل لكنا جميعا اسرى النظام السابق – او هكذا يظن – وهذا نوع من الثوار اسميهم ثوار مبارك فهم مباركيون اكثر من مبارك وهم يحبون ان يشيروا الي الناس بتصنيف خاص بهم ، فانت من النظام السابق وانت ابن النظام وانت فلول وهذا امتداد للنظام وذاك تلميذ النظام ...هكذا ..كلام مرسلا لا نهاية له .



الغريب انهم لا يقبلون هذا رغم انهم جميعا ابناء النظام ، فهم في الاكثر اعلاميون متفرغون للنقد او نشطاء متفرغون للنضال ولبعضهم مرتبات – اي نعم – مرتبات تجعلهم قادرين علي البقاء احياءا بدون وظيفة حقيقية ولا انتاج حقيقي ، فهم اعلاميون ونشطاء  وتلك الفئة لا تحسن البناء ولا تعرف فيه تفصيلة وهي طبقة طفيلية تعيش علي جثث الفقراء فبينما هي تتعاطف معهم لغة ، تمتطيهم فعلا وتكسب من الاموال عشرات الاضعاف بلا حياء ولا خجل . وقريبا تكشفت بعض العقود لمثل هؤلاء المرتزقة الذين يعيشون في عوالم من نضال " ذهبي " ، المناضل فيها غني ، والناشط فيها يزداد وزنه من اثر النعمة ...ولا حسد...بالطبع



كلنا كنا في نظام ما ، في الاخوان ، في الكنيسة ، في شركة ، في مؤسسة ، في منظمة ...وفي كل منها يوجد من هو كفؤ مشاغب ناقد باحث عن الحقيقة مقلل من الخسائر وفيها من هو غير ذلك ...نربأ ان نعمم في كل تلك المنظمات ان كل من فيها اما منافق او متملق او فاسد ...فلكل منا كيانه الخاص واعماله التي تتحدث عنه ...الغريب ان نبيا مثل يوسف كان وزيرا في نظام كافر وكان يصلح ما افسده النظام حتي وقف هو للمجاعة التي كادت ان تقتلع مصر بل ويجعلها مركز توزيع للغذاء علي العالم ....لم نسمع ان يوسف ابن النظام رغم كونه نبيا وربما كان اولي به ترك النظام والرحيل عنه والاستقلال ، لكن سنة الله في كونه تقتضي ان يكون هناك مقاتلون يعملون داخل انظمة يصلحون ما فسد فيها علي قدر استطاعتهم خاصة في عموم البلوي وتفشي الفساد واننشار الخراب . مهاتير محمد نموذج اخر ...من دولة من دول اسيا التي قفزت في سنين بسيطة من مصاف الدول المتخلفة الي دول العالم الثاني ، بقيادة شخص كان كفؤا وله رؤية .

بينما يقول البعض عن احمد شفيق انه ابن النظام ، ينسون انهم هم امتداد النظام حتي بعدما سقط ، بينما كان شفيق نظاما جديدا في النظام القديم ، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، سواء من كفاءة ورؤية وبناء واتقان وحزم وحسن ادارة وتقليل خسائر واعطاء كل ذي حق حقه واحترام المجتهد وابعاد الفاشل الفاسد ، لو كان هذا هو النظام القديم ...فنحن نريد هذا النظام ونترك لكم نظامكم الجديد الملئ بالكلاشيهات الخالي من مضمون والمنقوع في جدليات مباركية منزوعة الدسم يثيرها بين الحين والاخر محترفو كلام  لا مهنة لهم الا النقد من اعلي والحديث عن حلول لم يمتهن منهم احد منها شيئا ....ايها المباركيون الجدد ...ان كان نظام احمد شفيق هو النظام السابق ..فهو انفع لنا ..من انظمة جديدة مطلية بالوان قوس قزح ، مقفولة علي ديدان وثعابين ....لطريق من 100 متر بني بأمانة في زمن كان الناس يغشون فيه في السنتي متر ، افضل من طرقكم الزاهية المبنية علي جدليات مرفوع علي جنباتها اعلام ثورية ....ايها السيدات والسادة ...نقدم لكم الثورة بكل قيمها في منهج تفكير فمن شاء فليتبعنا ....فالثورة تغيير ...ولا تغيير بمنهج تفكير مباركي قابع في عقول ...ثوار ..او يزعمون انهم ...ثوار

ولكل من شارك في الثورة من يوم 28 يناير اقول ...هذه ثورتكم لا تتركوها للسرقة من الباكين علي الثورة ...فمن سرقها لا يرتدي اللون الكاكي وان هتفوا ضده...بل من سرقها من روحها ، يجلسون في مكاتب اعلامية وصالونات ثقافية ونسمع نعيقهم علي الفضائيات .

لا تجعلوهم يشغلونكم بجدليات مباركية لا قيمة لها ...ولا اثر لها ...في الشارع

No comments:

Post a Comment